يتبع
أما الثمر الثاني فهو نوعية التابعين. إذا أردت أن تدرك الفرق بين النبي الآتي من الله ومن يدَّعي النبوَّة، فانظر إلى التابعين، فالتابعون هم ثمرة النبوَّة: فالرسالة الحقيقية هي التي تدعو إلى اتساع الأفق بما يتناسب مع الفكر الإلهي، كما تدعو إلى الثقافة والتحضُّر وإلى الحب والأمانة. الرسالة الحقيقية هي التي تدعو إلى المساواة بين الرجل والمرأة، لأنها «معين نظيره» (تكوين 2: 18). قُل لي ما هي مكانة المرأة في أي مجتمع، أقلْ لك مدى تحضُّره أو تخلّفه. إن الرسالة التي تفصل بين الدين والحضارة، وبين ما هو روحي وما هو زمني، بين الطهارة الخارجية وطهارة الفكر، هي رسالة إنسانية وليست إلهية. قال المسيح: «من ثمارهم تعرفونهم« أي من مستوى الأتباع تعرف المعلم، ومن مستوى الشعب تعرف القائد، لأنهم ثمرة يديه. فصانع الحضارة هو الدين. وبالرغم من أن بعض البشر رفضوا الدين، إلا أن القِيَم التي غُرست فيهم من آلاف السنين لا زالت تترك آثارها عليهم. فهي سرُّ تحضُّرهم ووجودهم كبشرٍ أسوياء.
(5) نكتشف صدق المعلم أو النبي من توافق حياته مع تعليمه: فقد قال المسيح: «من عمل وعلَّم فهذا يُدعى عظيماً في ملكوت السماوات» (متى 5: 19). فكلمة النبي أو رسالته يجب أن ترتبط بحياته دون انفصام. كان الأنبياء في القديم يعبِّرون عن رسائلهم بحياتهم وبأجسادهم. فمثلاً كانت رسالة إرميا أن يتحدث عن السبي الذي سيذهب الشعب إليه، فأتى بنير خشبي وضعه على كتفيه. وعندما حطَّم الملك النير الخشبي وضع نيراً من حديد وسار به بين الناس، يتحدث عن الشعب الذي سيحمل النير في السبي (إرميا 28). وإيليا عاش متقشفاً في الصحراء ليعبِّر عن رسالته (1ملوك 19:
. وهوشع الكاهن تزوج من امرأة زانيةٍ كما أمره الرب، ليقدِّم صورة حيَّة لمحبَّة الرب لشعبه رغم زناه، وكانت حياة هوشع هي رسالته (هوشع 1 و3). لكن إذا جاء نبي يتحدث عن رسالة هو لا يعيشها، فهو منفصل تماماً عن كلمته. فالنبي الذي يتحدث عن العدالة والنقاء والأمانة، عليه أن يعيش هذه الصفات. والمسيح لم يعلِّم تعليماً لم يعشه هو أولاً.
(6) ونكتشف صدق المعلم أو النبي من تحدّي رسالته لعوامل الهدم: فالرسالة التي تقف شامخة رغم كل محاولات الهدم، رسالة صادقة. الرسالة التي لا تخشى الانتقاد والتقييم المستمر في العهود المختلفة هي رسالة مؤسسة على الصخر. فالرسالة الحقيقية لا تحتاج إلى حماية بشر في مواجهة النقد والتقييم. ولرسالة المسيح 2000 عام، تعرضت فيها لكل معاول الهدم والانتقاد، وما زالت. حتى في البلاد المسيحية، نجد الإذاعة والتليفزيون والصحافة تترك المجال بكل حرية لمن يريد أن ينتقد المسيحية أو الكتاب المقدس. لكن يبقى في النهاية التعليم الصحيح، فلا يصح إلا الصحيح، كما يقولون. يقول المسيح: «كل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبِّهه برجلٍ عاقلٍ بنى بيته على الصخر. فنزل المطر وجاءت الأنهار وهبَّت الرياح ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط، لأنه كان مؤسَّساً على الصخر. وكل من يسمع أقوالي هذه ولا يعمل بها يُشبَّه برجلٍ جاهلٍ بنى بيته على الرمل. فنزل المطر وجاءت الأنهار وهبَّت الرياح وصدمت ذلك البيت فسقط، وكان سقوطه عظيماً» (متى 7: 24-27).
إن كنت تريد أن تكتشف صدق رسالة أو نبوَّة، اتركها للناس ينتقدونها ويفسرونها ويحللونها، فإن صمدت للنقد واستطاعت أن تقاوم، تكون رسالة صادقة من الله. لا تحاول أن تحميها برجال أو مال أو سلاح، فالرسالة الصادقة قوتها في الحق الذي تحتويه.
(7) نكتشف صدق النبي من نوعية السلطان الذي يتمتع به: لقد بُهتت الجموع من تعليم المسيح لأنه كان يتحدث بسلطان وليس كالكتبة. والسلطان هنا لم يكن سلطان قوة يُرغم بها الناس على سماعه، ولا سلطان نفوذ أو كهنوت، فقد كان المسيح إنساناً بسيطاً. لم يكن من الأسرة الكهنوتية، ولم يكن زعيماً يحمل سلاحاً، لكنه كان يحمل سلطان الكلمة التي يتفوَّه بها، فهو كلمة الله. يقول المسيح: «خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني» (يوحنا 10: 27). إنه يعرفنا ولذلك له سلطان علينا.
وقف أحد المرنمين العظماء في حفل ضخم ورنم: «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء. في مراعٍ خضرٍ يربضني، إلى مياه الراحة يوردني يردُّّ نفسي. يهديني إلى سبل البر.. أيضاً إذا سِرْتُ في وادي ظل الموت لا أخاف شراً لأنك أنت معي. عصاك وعكازك هما يعزيانني» (مزمور 23) فاستمتع الناس بالترنيم جداً وصفقوا له. ثم وقف بعده مرنم آخر ورنم نفس المزمور، فبكى الناس عند سماعه، فقال أحد الجالسين: «المرنم الأول يعرف المزمور جيداً، أما الثاني فيعرف رب المزمور». والنبي الحقيقي هو الذي يعرف الله.
نبوَّات الكتاب المقدس:
أعلن الأنبياء نبوّات الكتاب المقدس بوضوح، وعلى رؤوس الأشهاد. وكان النبي يعرف أنه إذا لم يتم شيء من نبوّاته عرّض نفسه للتهلكة. ومن النبوات ما تحقَّق في الحال، ومنها ما تمّ ويتم في المستقبل، وكان تحقيق بعض النبوّات في الحال دلالة على صدق النبي في باقي أقواله.
ولنضرب بعض أمثلة توضح ذلك من نبوَّة إشعياء، فنقول:
(1) لمَّا تحالف ملك أرام مع ملك إسرائيل على إخراب مملكة يهوذا وأتيا وحاصراها، ارتعب آحاز ملك يهوذا وكل شعبه. فأتاه النبي إشعياء وسط هذه الشدة، وأكد له أمام الجميع أن الله سيُحبط عملهما وأنهما سيموتان بعد برهة قصيرة. وأنه قبل أن يعرف الصبي الذي يولد في عشرة أشهر أن يدعو يا أبي ويا أمي، يستولي ملك أشور على دمشق عاصمة مملكة أرام وعلى السامرة عاصمة مملكة إسرائيل (إشعياء 7: 1-9 و8: 4) وأعلن النبي إشعياء تفاصيل زمن تحقيق نبوَّته، وأن صوت الرعد الذي يفزع الأشوريين يكون صوت تهليل وحبور لأورشليم (إشعياء 29: 6-8 و30: 29-32). فتحققت هذه النبوَّة تماماً بعد ثلاث سنين، مع أنه وقت النبوَّة لم يكن هناك ما يدل على هلاك جيش سنحاريب.
(2) لما أرسل مرودخ بلادان ملك بابل سفراء إلى حزقيا ملك يهوذا ليهنئوه بالشفاء من مرضه، أراه حزقيا خزائنه متباهياً بها، فتنبأ إشعياء قائلاً: «ستُنقَل خزائنك إلى بابل، ويُسبَى أولادك ويكونون خصياناً في قصر ملك بابل» (إشعياء 39). وكانت هذه النبوَّة بخلاف المنتظر، لأن ملك يهوذا كان حليفاً لملك بابل، وكان ملك بابل وقت النبوَّة ضعيفاً لا يقدر أن يفعل شيئاً من ذلك.
(3) تنبأ إشعياء عن رجوع بني إسرائيل إلى وطنهم من سبيهم، بل تنبأ باسم الملك الذي يعيدهم فقال في أصحاح 44: 28 و45: 1 إن كورش ملك الفرس هو الذي يطلقهم من السبي، مع أن كورش هذا لم يولد إلا بعد مئة سنة من النطق بهذه النبوَّة. وقد تم ما أنبأ إشعياء به.
(4) ومن ذلك نبواته عن خراب بابل، مع أنها كانت في عهده زاهية زاهرة، ولكن تم خرابها بحيث لم يعرف أحد الآن لها موقعاً. وقِس على ذلك نبوات الأنبياء الصادقين. لقد جاءت نبوات الكتاب بتفصيلات دقيقة، لا يمكن أن تكون قد تحققت بالصدفة، أو لأن قائلها كان قارئاً حكيماً للمستقبل.
(5) وإليك نموذجاً من النبوات المفصَّلة عن المسيح:
مكان ميلاده (ميخا 5: 2). * من عذراء (إشعياء 7: 14). * قتل أطفال بيت لحم وقتها (إرميا 31: 15). *الهروب إلى مصر (هوشع 11: 1). * دخول المسيح الانتصاري إلى أورشليم (زكريا 9:9). * يخونه صديق بثلاثين من الفضة (مزمور 41: 9 وزكريا 11: 12). * يشترون بالفضة حقلاً (زكريا 11: 13). * يُصلب المسيح مع الأشرار (إشعياء 53: 12) * تُثقَب يداه ورجلاه (مزمور 22: 6،
. * يُطعَن في جنبه (زكريا 12: 10). * يقوم من بين الأموات (مزمور 16: 10). * يصعد للسماء (مزمور 68: 18).
(6) وهناك نبوات عن عظمة المسيح المخلِّص الآتي، ففي إشعياء 9: 6 يُسمَّى «الإله القدير»، وفي إرميا 23: 6 يُسمى «الرب برنا»، وفي ميخا 5: 2 يُوصف بأنه الأزلي الأبدي «مخارجه من القديم، منذ أيام الأزل»، وفي دانيال 7: 14 يُقال عنه «سلطانه سلطان أبدي لن يزول»، وفي زكريا 13: 7 يوصف بأنه رفيق لرب الجنود، وفي ملاخي 3: 1 يقال إنه سيأتي بغتة إلى هيكله.[/size]