(6) «أحياناً يبدو شيء من التناقض بين عبارتين في الكتاب المقدس، والسبب في هذا وقوع خطأ أو عدم تدقيق في الترجمة». ففي حالة كهذه كل من له إلمام باللغة الأصلية يمكنه بكل سهولة حل المشكلة. والخطأ في مثل هذه الأحوال لا يرجع إلى أصل الكتاب بل إلى ترجمته. فاللغتان العبرانية واليونانية المُعطى بهما الكتاب أصلاً لهما اصطلاحات خاصة بهما. وكثيراً ما يتعذَّر ترجمة هذه الاصطلاحات إلى ما يعادلها في اللغات الأخرى. ويمكننا أن نشير في هذا الصدد إلى عبارتين وردتا في سفر الأعمال بخصوص اهتداء شاول الطرسوسي. ففي أعمال 9: 7 نقرأ: «وأما الرجال المسافرون معه فوقفوا صامتين، يسمعون الصوت ولا ينظرون أحداً» بينما في أعمال 22: 9 نقرأ قول شاول الطرسوسي: «والذين كانوا معي نظروا النور وارتعدوا، ولكنهم لم يسمعوا صوت الذي كلمني». وعند أول وهلة يبدو في هاتين العبارتين تناقض، لأن أعمال 9 يفيد أن المسافرين مع شاول سمعوا الصوت، بينما أعمال 22 يفيد أنهم لم يسمعوه. ولكن من يعرف اللغة اليونانية يحل هذه العقدة بغاية السهولة، لأن العبارة الأولى تفيد مجرد سماع الصوت، أي مجرد وصول الصوت إلى الأذن. بينما العبارة الأخرى تفيد أن المقصود بالسمع فَهْم كلام المتكلم. فأعمال 22 لا ينكر أن المسافرين مع شاول سمعوا الصوت سمعاً، ولكنه يفيد أنهم لم يفهموا معنى الكلام الذي قيل.
(7) لا توجد بين أيدينا نسخ الأسفار المقدسة الأصلية، بل النُّسخ التي نُسخت فيما بعد. فمن المحتمل وقوع بعض هفوات في الهجاء وغيره أثناء النسخ. ولا شك أن أصل الكتاب هو الموحَى به. وتُعتبر النسخ التي نُسخت فيما بعد موحَى بها في كل ما كان فيها مطابقاً للأصل. على أن النُّسَّاخ الأولين قد تعبوا كثيراً وكانوا ذوي ضمائر صالحة. ولكن كما يوجد تشابه بين الحروف في كل لغة هكذا الحال أيضاً في اللغتين العبرانية واليونانية، مما يجعل النسخ عرضة لكتابة حرف بدلاً من حرف آخر.
هذا أمر مهم جداً فيما يختص بالأرقام، لأن اللغتين العبرانية واليونانية القديمتين لم يكن بهما الأرقام العربية. فكان العبرانيون يستخدمون الحروف الهجائية بدل الأرقام. وبعض هذه الحروف متشابهة الشكل. وكثير مما يُقال له »تناقض« يرجع سببه إلى عدم دقة غير مقصودة من الناسخ. فمثلاً حرفا الدال والراء في العبرانية متشابهان كثيراً. والباحث المخلص يجد أن غلطات كهذه يرجع سببها إلى النَّسْخ، ولا تؤثر البتة على نص الكتاب وتعليمه. ويمكن النظر إليها كما يُنظر إلى ما يقع من الغلطات الكثيرة في وقتنا الحاضر أثناء طبع الكتب المختلفة. ومهما كثر عدد الغلطات المطبعية في أي كتاب فهذا لا يغيّر نصَّه ومدلوله. وعلاوة على هذا لا يلقي أحدٌ مسؤولية خطأ كهذا على مؤلف الكتاب. وقال المفسر المعروف متى هنري تعليقاً على هذا الموضوع: «لا نجد كتاباً مطبوعاً بدون قائمة تصحيح الأخطاء، ولا تُنسب الأخطاء للمؤلف، ولا تبخس الكتاب قيمته. والقارئ العادي يدرك القراءة الصحيحة تلقائياً، أو يدركها بمقارنة الخطأ بصواب آخر في نفس الكتاب». وقد كان النسّاخ أمناء في الاحتفاظ بالنص الذي وصلهم بغير تغيير، فسلّمونا ما وصلهم كما هو.. وإذا تذكرنا هذه الحقائق، فلن يعتري المؤمن التقي اضطراب عندما يرى خطأً في النَّسْخ، ولا يكون للناقد أقل حقٍ أن يتطاول على وحي الكتاب المقدس.
(
عند النظر في أي تناقض ظاهري يكفي الإتيان بحل واحد أو توفيق واحد بين العبارات التي يبدو فيها التناقض، وليس من العدل المطالبة بأكثر من هذا. إذا كتب كاتبٌ مثلاً عن شخص ما أنه أصفر اللون، وكتب عنه آخر أنه أسمر، يبدو اختلافٌ بين العبارتين، ولكن الاختلاف ينتهي لو عرفنا أن الأول يشير إلى هذا الشخص وهو شيخ، والثاني يشير إليه وهو شاب. حلٌّ كهذا جدير بالقبول، ولا يصحُّ رفضه ما لم يُؤتَ بالدليل على عدم صحته. وعليه يتلاشى التناقض إذا أمكن الإتيان بتوفيق لا يمكن الاعتراض عليه. أما إذا أمكن تقديم عدَّة حلول أو توفيقات، فلا مكان لاعتراض أي معترض على الكتاب المقدس. وفي حالة وجود توفيقات كثيرة لا يكون من اللازم الجزم بأفضلية أحدها عن باقيها. على أنه قد يجوز أخذ حل منها دون سواه.
(9) عجزنا عن حل عقدة لا يعني أن غيرنا سيعجز كذلك، فعندما نقابل في الكتاب عقدة معقَّدة نتعب باطلاً في حلّها، لا يجوز لنا مطلقاً في حالة كهذه أن نسلِّم بوجود تناقض حقيقي أمامنا. ولا يخفَى أن إدراكنا محدود ومعرفتنا ناقصة واختبارنا قليل، ومن المحتمل أن الأجيال المقبلة لا تجد صعوبة في حلّ ما نراه الآن معقَّداً وغامضاً.
(10) عند تناول ما يُقال له «تناقض في الكتاب» نحتاج إلى روح الخشوع والوقار، فنحني رؤوسنا إجلالاً عندما يتكلم الملك السرمدي الخالد الغير المنظور الإله الحكيم وحده. فمن اقترب من الكتاب بروح الاتضاع تتضح له الأمور التي تظهر للناقد الطائش كأنها ألغاز. إن الله يعلن ذاته في كلمته كما في أعماله، ففيهما معاً نرى إلهاً يعلن ذاته ويخفيها، ولا يراه إلا طالبوه بالحق. وفي كلمة الله وأعماله يرى الإنسان ما يؤيد الإيمان، وقد يرى فيهما أيضاً (بسبب قِصر نظره) ما يدعوه إلى الكفر. وقد يرى فيهما تناقضاً ظاهرياً لا يستطيع حله إلا من يسلّم ذهنه لإرشاد الروح القدس بالوقار. وقبول الإنسان إعلانات الله عن نفسه هو امتحان لقلبه.